بغداد – العراق – سارة جاسم – في إحدى ضواحي مدينة كربلاء، كانت أمّ حسين تستعد في ظهيرة صيفية لطهي الغداء لعائلتها، عندما لاحظت دخانًا أسود كثيفًا يتصاعد من خلف منزلها. لم يكن حريقًا عرضيًا، بل ناتجًا عن حرق أكياس نفايات ممتلئة بالبلاستيك خلف إحدى المدارس المهجورة. لم تكن هذه المرة الأولى التي تشم فيها رائحة البلاستيك المحترق، لكنها كانت هذه المرة خانقة بشكل غير مسبوق. في اليوم نفسه، أُصيب طفلها الأصغر، ذو الأعوام الستة، بنوبة ربو حادة نُقل على إثرها إلى المستشفى، وهناك، جلست أمّ حسين إلى جانب أمٍ أخرى، جاءت بابنتها الصغيرة المصابة بحساسية جلدية متكررة، كلاهما لا تعرف الكثير عن “الميكروبلاستيك”، ولا عن الديوكسين، لكنها تعلم أن شيئًا في هواء المدينة لم يعد كما كان.
تلك الحكاية قد تبدو بسيطة أو حتى عابرة، لكنها تتكرر يوميًا في مدن العراق كافة، من بغداد إلى البصرة، في أحياء لا تملك شبكات صرف صحي أو خدمات فرز نفايات، وفي بلد يستهلك ملايين الأطنان من المنتجات البلاستيكية سنويًا دون ضوابط أو وعي أو حلول واضحة.
من التلوث البصري إلى السموم الخفية
في العراق، لا يُعد التلوث البلاستيكي مجرد مشكلة بيئية، بل هو أزمة تمس الأمن الصحي والاقتصادي والاجتماعي للدولة. فالمنتجات البلاستيكية تحيط بالمواطن العراقي منذ لحظة استيقاظه، من قنينة الماء التي يشرب منها، إلى كيس الخبز الذي يحمله، وصولًا إلى أكياس التسوق التي تُرمى في أقرب ركن شارع. لكن الكارثة الحقيقية لا تكمن فقط في النفايات المتراكمة، بل في أن هذا البلاستيك لا يختفي، بل يعود إلينا — ذرات دقيقة في مياه الشرب، أبخرة سامة في الهواء، ومواد كيماوية مستقرة في أجسادنا.
وتشير تقديرات دوائر بلدية بغداد إلى أن العاصمة وحدها تنتج ما يزيد عن 7000 طن من النفايات يوميًا، يشكّل البلاستيك نحو 20% منها. هذه الكميات الهائلة لا تجد طريقها إلى معامل تدوير أو محارق صحية، بل تُلقى في مكبات عشوائية أو تُحرق في الأحياء السكنية، لتطلق غازات سامة مثل الديوكسين والفوران، المصنفتين من قبل منظمة الصحة العالمية ضمن المواد المسببة للسرطان.
خطر البلاستيك لا يتوقف عند التلوث البصري أو الروائح الكريهة، بل يتعمق في التربة، ويتحول إلى جزيئات دقيقة تُعرف بـ”الميكروبلاستيك”، تختلط بالمياه الجوفية، وتنتقل من التربة إلى السلسلة الغذائية، لتصبح جزءًا من طعامنا ومائنا وهوائنا.
السرطان في العراق: أزمة تتفاقم
بحسب التقرير السنوي لوزارة الصحة العراقية لعام 2023، تم تسجيل أكثر من 43,000 إصابة جديدة بالسرطان، بواقع 171.6 إصابة لكل 100 ألف نسمة. ووفقًا للتقرير، تحتل محافظة كربلاء الصدارة بعدد الإصابات، حيث يعالج مركز الإمام الحسين للأورام آلاف المرضى سنويًا. أنواع السرطانات الأكثر شيوعًا تشمل سرطان الثدي، الجهاز الهضمي، والجهاز التنفسي، وهي أمراض ترتبط بشكل مباشر بالتعرض المزمن لمركبات كيماوية ناتجة عن احتراق البلاستيك، أو تسربه في المياه والطعام.
الخطورة لا تكمن في ارتفاع الأرقام فقط، بل في الانتشار الجغرافي غير المتوقع. فقد لوحظت زيادات لافتة في معدلات الإصابة بمحافظات كانت سابقًا تُصنّف بأنها الأقل تضررًا، مثل النجف والديوانية، ما يشير إلى انتقال الأزمة من المراكز الحضرية الكبرى إلى الأطراف. وتُرجّح تقارير محلية أن ازدياد تراكم النفايات في الأحياء السكنية، وغياب الرقابة على عمليات الحرق، قد يكونان من العوامل الأساسية وراء هذا الانتشار.
في الوقت ذاته، بدأت مستشفيات التعليم الطبي في بغداد والبصرة وميسان بتسجيل حالات سرطان مبكرة لدى فئات عمرية شابة، تتراوح بين 20 و35 عامًا، لا سيما في المناطق القريبة من مكبات النفايات أو المعامل التي لا تطبق شروط السلامة البيئية. هذا الأمر دفع بعض الجهات الأكاديمية إلى إطلاق دعوات لإجراء بحوث طبية مشتركة حول العلاقة بين أنماط التلوث البيئي والسرطانات المتزايدة، لكن هذه المبادرات لا تزال محدودة وغير ممنهجة.
في ظل غياب استراتيجية بحثية وطنية، وضعف التنسيق بين وزارات الصحة، والبيئة، والتعليم العالي، تبقى العلاقة بين التلوث والسرطان شبه مغفلة في السياسة الصحية العامة. وهو ما يُبقي هذه الكارثة البيئية والصحية في دائرة الإنكار أو التأجيل، بدل المواجهة المباشرة.
الغرق بالبلاستيك: استيراد بلا رقابة
ما يعقّد الأزمة أكثر هو غياب أي سياسة وطنية شاملة للحد من استيراد أو إنتاج أو تدوير البلاستيك. تُظهر تقارير الجمارك غير الرسمية أن العراق استورد في العقد الماضي أكثر من 280 ألف طن سنويًا من المواد البلاستيكية، تشمل أدوات التعبئة، أكياس التسوّق، أدوات الطعام، وحتى مستلزمات صحية. هذه المنتجات غالبًا ما تكون منخفضة الجودة وتُستخدم مرة واحدة فقط، ثم تُلقى أو تُحرق، ما يضاعف من التلوث دون وجود آلية رقابة أو مساءلة. رغم وجود هيئة للسيطرة النوعية، فإن الفساد الإداري، وضعف التشريعات، يجعل دخول هذه المواد إلى الأسواق أمرًا اعتياديًا.
ولا توجد حتى الآن استراتيجية وطنية متكاملة لإدارة أزمة النفايات البلاستيكية. ولا تُفرض ضرائب على المنتجات ذات الاستخدام الواحد، ولا توفَّر بدائل صديقة للبيئة بأسعار مشجعة. وتفتقر معظم المحافظات لمعامل تدوير فاعلة، ما يجعل الحلول المعتمدة إما بدائية أو موقّتة.
مبادرات مدنية والإعلام البيئي الغائب
في المقابل، ينهض المجتمع المدني من الظل، محاولًا ملء هذا الفراغ. مبادرات مثل “أجيال بلا بلاستيك” التي أطلقها فريق آفاق المناخ، و”إيكو بغداد” التي أسسها شباب لتوزيع أكياس قماش وقناني معدنية بديلة، بدأت تنشر ثقافة بدائل البلاستيك في المدارس والأسواق. تُوزع القناني المعدنية، وتُنظّم ورش توعية، وتُطلق حملات لجمع النفايات، لكنها رغم نبلها تبقى محصورة في نطاقات ضيقة بسبب ضعف التمويل وغياب الدعم الرسمي.
في بلد يعاني من أزمات متعددة، قد يبدو التلوث البيئي ملفًا ثانويًا في أعين صانعي القرار والإعلاميين على حد سواء، إلا أن تجاهله يحمل تداعيات جسيمة. الإعلام العراقي، على اختلاف منصاته، لا يخصص مساحات كافية لمعالجة أزمة التلوث البلاستيكي، وغالبًا ما تغيب هذه المواضيع عن نشرات الأخبار أو البرامج الحوارية أو التقارير التحليلية.
نادرًا ما نرى برامج أسبوعية مخصصة للبيئة، أو حملات إعلامية تقودها المؤسسات الكبرى لتوعية الجمهور بأضرار البلاستيك وطرق الحد من استخدامه. وحتى في المحتوى الرقمي، يندر أن نجد منصات توعوية مستقلة أو مدعومة تتناول البيئة باعتبارها قضية مستمرة لا ظرفًا موسميًا. هذا الغياب ينعكس على ضعف الوعي الجمعي، ويقلل من فرص الضغط الشعبي المطلوب لدفع الحكومة والقطاع الخاص نحو تبنّي حلول مستدامة.
التجارب الإقليمية والعالمية أظهرت أن الإعلام البيئي ليس ترفًا، بل ضرورة للتأثير في الرأي العام ودفع التغيير. ففي دول مثل الهند وكينيا، ساهمت الحملات الإعلامية في فرض حظر على أكياس النايلون وتبني بدائل جماعية على نطاق واسع. أما في العراق، فلا تزال البيئة خارج إطار التغطية المستمرة، ما يفاقم المشكلة بدلًا من احتوائها.
نحو حلول مستدامة وشاملة
لا يمكن مواجهة أزمة بهذا الحجم دون رؤية شاملة تقوم على عدة أركان مترابطة. تبدأ بإصدار تشريعات فاعلة تحدّ من استيراد واستخدام البلاستيك، واستثمارات في إعادة التدوير تنفذها الدولة بالشراكة مع القطاع الخاص. ويجب دمج البُعد البيئي في المنهاج الدراسي ووسائل الإعلام، وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني في صياغة السياسات وليس فقط تنفيذها. كما أن فرض رسوم رمزية على المنتجات البلاستيكية يمكن أن يوجّه المستهلكين نحو بدائل أكثر استدامة، خاصة إذا تم استثمار هذه الأموال في مشاريع بيئية ملموسة.
في العديد من دول العالم، أثبتت السياسات البيئية الجريئة فاعليتها في الحد من التلوث البلاستيكي. على سبيل المثال، فرضت رواندا حظرًا صارمًا على الأكياس البلاستيكية منذ عام 2008، وتحولت العاصمة كيغالي إلى واحدة من أنظف العواصم الإفريقية. أما في الهند، فقد أطلقت الحكومة حملات توعية وطنية ضخمة ترافقها تشريعات صارمة، مثل حظر الأكياس والأواني البلاستيكية في ولايات عدة.
وفي أوروبا، تُلزم قوانين الاتحاد الأوروبي الشركات بإعادة تدوير جزء من منتجاتها البلاستيكية، وتُفرض ضرائب على المواد غير القابلة للتدوير، مما دفع الأسواق إلى استخدام التغليف الورقي أو القابل للتحلل. هذه النماذج تُظهر أن أي تحول بيئي مستدام يتطلب إرادة سياسية، وضغطًا شعبيًا، ودعمًا للمشاريع الابتكارية في مجال التدوير.
الأثر الاقتصادي لأزمة البلاستيك في العراق
بعيدًا عن التأثيرات الصحية والبيئية، يفرض التلوث البلاستيكي أعباء اقتصادية ضخمة على الدولة. تكاليف تنظيف الشوارع، ومعالجة الأضرار الزراعية، ونقل النفايات، تُقدّر بملايين الدولارات سنويًا. كما أن غياب صناعة تدوير وطنية يضيّع على العراق فرصًا استثمارية ضخمة في سوق عالمي متنامٍ لإعادة التدوير.
وفي قطاع الزراعة، تتضرر التربة الزراعية من تراكم مخلفات البلاستيك التي تعيق امتصاص الماء والهواء، وتؤثر سلبًا على نمو المحاصيل. في حين أن الجزيئات الدقيقة التي تصل إلى المياه الجوفية تُهدد مصادر الري والاستهلاك البشري على حد سواء، ما يزيد الضغط على البنية التحتية الهشة أصلًا.
مقترحات عملية للتنفيذ الفوري
لتحقيق التقدم الفعلي، من الضروري أن تتخذ الحكومة العراقية سلسلة من الإجراءات المترابطة تبدأ بسن قانون وطني لحظر أو تقنين استخدام البلاستيك غير القابل للتحلل، إلى جانب تمويل إنشاء معامل تدوير صغيرة في المحافظات الأكثر تلوثًا. ولا تقل أهمية عن ذلك الحاجة إلى إطلاق حملة إعلامية موحدة تقودها وزارات البيئة والصحة والتربية لرفع وعي الجمهور بالمخاطر والحلول. كما ينبغي إدخال مادة “الوعي البيئي” كمقرر مدرسي ضمن التعليم الأساسي لتنشئة جيل أكثر مسؤولية تجاه بيئته. وأخيرًا، سيكون من المجدي تقديم حوافز ضريبية للشركات التي تعتمد على مواد تغليف صديقة للبيئة، ما يشجع القطاع الخاص على الانخراط الفعلي في التغيير. هذه التدابير، رغم بساطتها الظاهرة، تتطلب خارطة طريق واضحة، وإرادة تنفيذية فعلية، وإشراك المواطنين كمراقبين فاعلين في مسار التحول البيئي.
خاتمة: إما التغيير أو الانهيار
أزمة البلاستيك في العراق لم تعد ترفًا بيئيًا يُناقش في ورشات ومبادرات محدودة، بل أصبحت واقعًا خانقًا يضغط على صحة الناس، ويهدد أمنهم الغذائي، ويشوّه المدن التي كانت يومًا موطنًا للحضارة والنهرين. إن الصمت أمام هذه الكارثة ليس فقط تجاهلًا، بل تواطؤ غير مباشر في تفاقمها، ودليل على فشل جماعي في حماية أبسط مقومات الحياة.
العراق لا يحتاج إلى حلول مستوردة، بل إلى قرار سيادي يتعامل مع البيئة كأمن وطني، ويُدخلها ضمن أولويات السياسات العامة. فالبيئة النظيفة ليست رفاهية، بل هي حق أساسي من حقوق الإنسان، وأرضية لكل إصلاح اقتصادي واجتماعي.
إن التغيير لن يأتي من المؤتمرات أو الشعارات، بل من قوانين تطبق، ومناهج تتغير، ومواطنين يحملون الوعي لا الأكياس البلاستيكية. والخيار ليس بين التغيير أو البقاء، بل بين النهوض أو الانهيار.
مستقبل العراق يُكتب اليوم، في كل قرار يُتخذ، وفي كل قنينة بلاستيكية نقرر ألا نستخدمها.، بل خطر وجودي يتغلغل في جسد المجتمع، ويدمر البيئة، ويستنزف الموارد، ويهدد الأجيال المقبلة. لا يمكن اعتبار تجاهل هذه الأزمة موقفًا محايدًا، بل هو تواطؤ غير مباشر في صناعة كارثة بحجم وطن.
مستقبل العراق الأخضر يبدأ من قرارات تُتخذ اليوم، ومن وعي جماعي يدرك أن البلاستيك ليس مجرد منتج عابر، بل معركة وجود لا تحتمل التأجيل.